البحث عن انتماء في اللاذقية - شارع ٨ آذار
أنزلني السرفيس على دوار الأزهري، حيث الموقف الأول للباص رقم ٣ رمل شمالي - مشفى. عادةً، بعد عودتي من القنجرة، حيث أقضي معظم ساعات نهاري في ضيعتنا أتعلم عن الناس والتعامل مع الناس، أجد حافلتين فارغتين على الموقف فأصعد في أولاهما، أخرج كتابي، وأنسى نفسي ساعة على الأقل بين انتظار الإقلاع ورحلة الطريق. اليوم، وقفت أنتظر الحافلة حوالي 15 دقيقة، أغني ما غنى النقشبندي بحثاً عن أية ومضة شعور وأملاً بدمعة ما، دون شيء. عند الخامسة و5 دقائق، تظهر الحافلة على الضفة الثانية للشارع، تتوقف، وينزل السائق مشيراً إلينا أنه لا باصات بعد هذه الساعة وأن رحلته كانت الأخيرة. هكذا إذاً، لا باصات بعد الخامسة.
أنا في أقصى شمال اللاذقية، وبيتي في أقصى الجنوب. فكرت في الأمر، الطقس مذهل رغم الهواء العاصف قليلاً، لا زال أمامي بعض الوقت قبل مغيب الشمس فلا تلحقني عتمة الليل، فلأمشِها.
أخذت طريق الباص نفسه، شارع الجمهورية، مفرق الملحمة الذي يصل إلى ساحة حلوم بين محلات البالة والخردوات والبسطات. وراء الأرض الفارغة سوى من الأعشاب منظر ساحر ساحر، الشمس والغيوم والطيور ومقعد أزرق وحزن متحرر أستنشقه مع كل نفس. كاميرا هاتفي الحمقاء طبعاً لا تستطيع الرؤية كما عيني. أتوقف قليلاً لأراقب المشهد وتراقبني عجوز من شرفة بيتها في كتلة بيوت متشابهة لا يشبه أيها الآخر.
أتابع طريقي باتجاه الساحة، أقف أمام زقاق ضيق صاعد قليلاً تحت حبال الغسيل المنشور من شبابيك مطابخ المنازل المكتظة. اللعنة، أحتاج صورة! أتخلى عن الأمر بعد 3 محاولات فاشلة. تتتابع محال الخردة وقطع التبديل والخضراوات واللحوم، وأرى خروفين صغيرين أمام الملحمة أحدهما يغفو والآخر يتثاءب. عاد ذهني لأول مرة رأيت فيها هذا المشهد، فكرت وقتها: لا يعرف الخروف الغافي المسترخي المثقل عند الغروب من روائح السوق وأصواته طوال النهار مصيره القريب، لا يعرف سوى اللحظة التي يعيشها، فيعرف كيف يعيشها.
مشاهد مشاهد مشاهد. عند الخزان، احترت بين أن أدخل حارات مارتقلا أو أتابع على الكورنيش، اختارت كاسة القهوة عني طريق الكورنيش، الذي بدأت أملّ النصف الثاني منه فأتركه باتجاه شارع 8 آذار من بدايته عند حديقة مارتقلا صعوداً.
رأيت علماً في مكان ما، كأن أحداً أفرغ دلواً من الأفكار المتصارعة التي كنت قد أجلّتها في رأسي. حتى نهاية شارع بغداد، بقيت تتصارع.
منذ بدأت أفتح عينيّ على الدنيا كنت أحلم أن يثور أبناء سوريا على شبكة التعذيب والقتل البطيء التي كانت، كنت أسمع جوناثان لارسون في الصف العاشر يقول: "لماذا يتطلب الأمر مأساة حتى تبدأ ثورة؟" وأغضب حين أفكر، أليس عندنا ما يكفي من المآسي لإشعال عشر ثورات؟ "ماذا يتطلب الأمر لنوقظ هذا الجيل؟" تساءلت وتساءلت وتساءلت، لم أكن أعرف أن جيلاً سبقني أشعل ثورة واستيقظ وأيقظ. لم أكن أعرف شيئاً.
أنا عرفت أن للثورة علماً في بداية الشهر 12 عام 2024 أي في اللحظة التي سقط فيها الأسد، كيف لم أعرف سابقاً؟ لا زلت أتساءل حتى اللحظة. وقتها، بقيت أبكي أسبوعاً كاملاً بكاءً متواصلاً فقط لشعوري بعدم استحقاقي حمل هذا العلم، لما يحمله من كل ما يحمله. كل من حولي يتغنى به، سعداء فرحين باكين لرفعه على الملأ. أما أنا؟ في سريري أبكي.
قرأت منشوراً لفادي حداد مرة يقول في نهايته: "يؤلمني أنّي أعارض ولا أثور. يؤلمني أنّي بين الجمهور، وحتّى لو كان غير موجوداً، لستُ على صورة "لا" ومثالها." هكذا كنت أنا، أقتل الغضب في داخلي والألم لألّا يخرجا عني، أو في أفضل الأحوال أحوّل مسارهما، فلم أكن أعرف أن هناك مساحة أنتزعها بالقوة تتحول فيها نار الغضب والألم لتربة خصبة عندما تخرج من سجنها وتتنفس لأول مرة نسيماً قادماً من البحر. كنت أظن أنني وحيدة في أفكاري، ومشاعري.
يقول محيطي أن الثورة سُرِقَت. بالفعل، تمّ القيام بما يكفي مما يعاكس حقيقة الثورة باسمها، لكنها لا تموت ما دام هناك شخص واحد يؤمن بها ويعرف حقيقتها. لم يقل خالد خليفة "ولاد الثورة في كل مكان" عبثاً.
بكيت في سريري لأنني لم أعرف بها من قبل لأعيشها بكل ما فيها، لأنني لم أستطع تقديم شيء لما يود قلبي لو استطاع إعطاءه نفسَه. شعرت بالغيرة من كل من عرف باسل شحادة وغياث مطر قبلي، والعتب العميق على كل من ساهم بلا نية سيئة في حجبها عني، عرفت بوضوح، في عامي التاسع عشر، أعداء جدد: الرضوخ لظلّي، والجهل.
لا أعرف إلى متى سيبقى العلم الأخضر مصدراً آمناً، أشفي بشقاء تحديقي اللامنتهي فيه، نور نفسي من ظلها. لكنه اليوم حتماً كذلك.
Comments
Post a Comment